كتب : الباحث هشام عبد الرحمن حسن عبد الرحمن
ملخص البحث:
أمرنا الحبيب مُحمد صلي الله عليه و سلم بإطفاء المصابيح بالليل, و بعد سنوات عديدة من البحث العلمي حول تأثير الضوء علي الإنسان و البيئة, قال العلم صدق رسول الإسلام, فإظلام المصابيح إعجاز نبوي يقي الإنسان و بيئته من التلوث الضوئي الذي ينشأ من التعرض الزائد للضوء في الليل.
النص المعجز:
حذرنا الحبيب صلي الله عليه و سلم من خطر المصابيح إذا تركناها موقدة عند النوم و ذلك في عدد كبير من الروايات, منها ما ذكر علة التحذير و هي الخوف من الاحتراق بنارها, و منها ما جاء بدون ذكر لعلة الأمر بإطفاء المصابيح لتعم النصيحة و الرحمة النبوية كل المخلوقات في كل زمان و مكان:
أولا: الروايات التي ذكرت علة إطفاء المصابيح عند النوم (الخوف من النار)
الرواية الأولي:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَتْركوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُون) متفق عليه.
الرواية الثانىة:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُم) رواه البخاري.
الرواية الثالثة:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْت) رواه البخاري.
الرواية الرابعة:
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلي الله عليه و سلم قال (غطوا الإناء ، وأوكوا السقاء ، وأغلقوا الباب ،وأطفئوا السراج . فإن الشيطان لا يحل سقاء ، ولا يفتح بابا ، ولا يكشف إناء . فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ، ويذكر اسم الله ، فليفعل . فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) رواه مسلم.
الرواية الخامسة:
عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أغلقوا الباب وأوكوا السقاء وأكفئوا الإناء أو خمروا الإناء وأطفئوا المصباح فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم) رواه مالك في موطأه و الترمذي في سننه و صححه الألباني.
الرواية السادسة:
5247 - حدثنا سليمان بن عبد الرحمن التمار ثنا عمرو بن طلحة ثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال (جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم فقال " إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم ") رواه أبو داود في سننه و صححه الألباني.
ثانيا: الروايات التي لم تذكرت علة اطفاء المصابيح عند النوم
الرواية الأولي :
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ) رواه البخاري.
الرواية الثانية:
حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا استجنح الليل أو قال جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم وأغلق بابك واذكر اسم اللهوأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا ) رواه البخاري.
الرواية الثالثة:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم) متفق عليه.
* بعض شروح الأحاديث
قال بن حجر في فتح الباري نقلا عن القرطبي (الأمر والنهي في هذا الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم النووي بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية، وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره. و في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوما، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفا ولأدائها تاركا. ثم أخرج الحديث الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال " جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم " وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضا وبيان الحامل للفويسقة - وهي الفأرة - على جر الفتيلة وهو الشيطان، فيستعين وهو عدو الإنسان عليه بعدو آخر وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم).
ونقل بن حجر قول ابن دقيق العيد ( إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج. وأما ورود الأمر بإطفاء النار مطلقا كما في حديثي ابن عمر وأبي موسى - وهو أعم من نار السراج - فقد يتطرق منه مفسدة أخرى غير جر الفتيلة كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة فينثر السراج إلى شيء من المتاع فيحرقه، فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمن معه الإحراق فيزول الحكم بزوال علته).
* قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ( وأطفئوا مصابيحكم ) اذهبوا نورها ولا يكون مصباحا إلا بالنور وبدونه فتيلة والمراد إذا لم تضطروا إليه لنحو برد أو مرض أو تربية طفل أو نحو ذلك والأمر في الكل للإرشاد وجاء في حديث تعليل الأمر بإطفاء المصابيح بأن الفويسقة تجر الفتيلة فتحرق البيت وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أشفق على أمته من الوالدة بولدها ولم يدع شفقته دينية ولا دنيوية إلا أرشد إليها. وقال القرطبي : تضمن هذا الحديث أن الله أطلع نبيه على ما يكون في هذه الأوقات من المضار من جهة الشياطين والفأر والوباء وقد أرشد إلى ما يتقي به ذلك فليبادر إلى فعل تلك الأمور ذاكرا لله ممتثلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم شاكرا لنصحه فمن فعل لم يصبه من ذلك ضرر بحول الله وقوته .
ملاحظات مهمة حول الأحاديث (خصوصا علة إطفاء المصابيح عند النوم):
أولا : تكرار التحذير النبوي من النار و المصابيح و السُرُج بروايات مختلفة و في مواقف مختلفة, يدل علي أن من عادة العرب في زمن النبي صلي الله عليه و سلم عند النوم ترك المصابيح موقدة و خاصة في فترة الليل, و ذلك لمنافع عديدة منها إذهاب وحشة الصحراء و الاحتماء من حيوانات الصحراء التي قد تهاجمهم في الليل و للتدفئة, فبين لهم النبي صلي الله عليه و سلم أن هذه عادة غير سليمة لما فيها من أضرار ظاهرة كما بين في بعض الروايات التي ذكرت الاحتراق بالنار, و أرشدهم صلي الله عليه و سلم إلي ما هو أنفع بإغلاق الأبواب لحصول الأمان, و إطفاء النيران لتوقي شرها.
و في عصرنا الحديث استبدلنا مصابيح النار بالمصابيح الكهربائية, و صرنا أحرص من العرب في زمن النبي صلي الله عليه و سلم علي إنارة المصابيح في ظلمة الليل, بل ان هناك مناطق بأكملها كبعض المدن الحديثة تحيل الليل إلي نهار من كثرة المصابيح المضاءة في ظلمة الليل, فهل الأمر النبوي (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ) ينطبق علي مصادر الضوء في زماننا أم لا, هذا ما سوف نراه في النقطة التالية بإذن الله تعالي.
ثانيا: شُراح الأحاديث قالوا بأن علة إطفاء المصابيح هي الخوف من ضرر النار الذي قد يحدث بسبب الفويسقة أو بغير سببها, فإذا انتفت العلة أمكن ترك المصابيح موقدة في الليل.
و نلاحظ هنا أن شُراح الأحاديث لم ينتبهوا إلي أن النار و المصباح و السراج, ليست فقط مصدر للحرارة و النار, و لكنها أيضا مصدرا للضوء, و لكن لأنهم لم يكونوا علي علم بأن الضوء قد يضر في بعض الأحيان, فتوهموا أن العلة الوحيدة لإطفاء المصابيح هو الخوف من النار, مع أنه أمر يعلمه الصغير قبل الكبير, و لو كان الضرر الوحيد من المصابيح و السراج هو النار و أمكن الاحتراز منه بوسيلة ما لبين النبي صلي الله عليه و سلم ذلك, فكان صلي الله عليه و سلم قادر علي أن يقول احترزوا من نار المصابيح, أو ضعوها في أماكن لا تصل إليها الفويسقة, و لكن لعلمه صلي الله عليه و سلم أن ضرر المصابيح أكبر من علة النار, فقد شدد علي الأمر بإطفائها في الروايات المطلقة التي لم تذكر علة النار و التي أتت علي سبيل العموم (أطفئوا المصابيح).
و حين حذر النبي صلي الله عليه و سلم من النار كان يعلم أن الناس بجبلتهم يحذرون منها و يجتهدون في اتقاء شرها, فالنبي صلي الله عليه و سلم لم يكن ليوضح الواضحات, و لذا فقد حذرهم من أمر غيبي لا يخطر لهم علي بال, ألا و هو تسلط الشيطان عليهم فقال " إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم ", أي أن الشيطان قد يدل الفويسقة علي السراج فتوقعه و تسبب الضرر لأهل هذا البيت بالرغم من أنهم قد بالغوا في الاحتراز من خطر النار بوضع السراج في المكان الآمن.
أيضا حين أطلق النبي صلي الله عليه السلام التحذير من النار و المصباح و السراج دون ذكر لخاصية الإحراق فقال صلي الله عليه و سلم (لا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُون), و قال (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ), فمؤكد أنه صلي الله عليه و سلم يدل أمته بالقدر الأكبر علي ما غاب عنهم من المنافع و المفاسد, فالعرب كلها تعلم بخطورة النار, و لكن العرب لا تعلم بمخاطر الضوء المنبعث من النار و المصباح.
و لما كان المعصوم عليه الصلاة و السلام لا ينطق عن الهوى, فلابد أن الروايات المطلقة التي لم تحدد العلة أتت لتبين أن هناك علل أخرى لإطفاء المصابيح غير النار, لكي يكون أمره صلي الله عليه و سلم صالحا لكل زمان و مكان, فذكر النار و الإحراق في بعض الروايات لأنها العلة المعروفة في زمنه, ثم أطلق الأمر بدون ذكر للإحراق, ليكون أمره شاملا لكل علة قد تظهر للبشر في كل عصر من العصور التي تلي عصر النبي صلي الله عليه و سلم . فكلما ظهرت للمصابيح أضرار غير النار, كان الأمر النبوي(أطفئوا المصابيح) حاميا من كل ضرر ظاهر كالاحتراق بنارها, أو ضرر غير ظاهر كالتعرض الزائد لضوئها في الليل كما سوف نبين في هذا البحث بإذن الله تعالي.
لذلك فإننا لا نستطيع أن نقول أنه بانتهاء علة الخوف من الاحتراق بالنار المذكورة في بعض الروايات أننا نستطيع أن نترك العمل بالحديث عند التعامل مع المصابيح الكهربائية أو غيرها من وسائل الإضاءة الحديثة, لأن هناك روايات أخرى أتت علي سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح) و لتدل علي وجود علل أخرى غير النار, و التي قد تظهر في المستقبل و ليس لعلة النار فقط.
ثالثا: مما يؤكد علي صحة ما ذهبت إليه من أن لإطفاء المصابيح عند النوم علل أخري غير النار كعلة الخوف من ضوئها, أن ظلمة الليل سنة كونية أكدت عليها الشريعة الإسلامية في أكثر من موضع و منها قوله تعالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, و عليه فالروايات التي أتت علي سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح), قد جاءت لتؤكد علي أهمية تحقق الظلمة في الليل لغرض النوم و لأغراض أخري سوف نبينها في هذا البحث بإذن الله تعالي.
رابعا: أتي الأمر النبوي مرة بإطفاء النار و مرة بإطفاء السراج و أخرى بإطفاء المصابيح, و لا تعارض بينها لأنه في وقت و عصر المصطفى عليه الصلاة و السلام كان السراج أو المصباح على هيئة شعلة من النار (فتيلة توقد بالزيت). فحينما أراد النبي صلي الله عليه و سلم التحذير الخاص من الاحتراق من المصابيح استخدم كلمة النار, و عندما أراد تعميم التحذير من كافة أشكال الإضاءة التي تعتمد علي النار و علي غير النار استخدم صلي الله عليه و سلم كلمتي المصابيح و السُرُج, و معروف أن كلمة مصباح تستخدم لكل ما يستضاء به قال تعالي {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5. و كذلك كلمة سراج تستخدم للاستضاءة كما في قوله تعالي {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16.
و إطفاء المصابيح أو السُرُج معناه تغطيتها عن الهدف الذي تضيئه بالإضافة إلي إخماد نارها إن كان لها نار.
خامسا: غالب الروايات ربطت بين إطفاء المصابيح و بين الرقاد (النوم), و إن لم يُذكر الرقاد صراحة فى بعضها و لكنه يُفهم من السياق, و لكن بعض الروايات لم تربط بين إطفاء المصابيح و النوم, و قد يكون ذلك لهدف مقصود, فحتى عندما يأتي الليل (فترة السكون ) يفضل إطفاء السراج و لو لم يُرد الإنسان النوم في هذا التوقيت, و ذلك لأن التعرض المستمر للإضاءة بالنهار و الليل قد تنتج عنه أضرار صحية كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة كما سوف نري في هذا البحث بإذن الله تعالي, و للحماية من هذه الأضرار ينبغي التعرض لفترة معينة من الظلام حتي و لو لم تكن هذه الفترة لغرض الرقاد (النوم).
سادسا: بعض الروايات خصت ذكر الرقاد في الليل و بعضها ترك الأمر على إطلاقه بدون تخصيص لفترة الليل, ليتبين لنا تعميم الفائدة من إطفاء السراج عند الرقاد في أي وقت بالليل أو النهار .
الهدف من البحث:
سنركز في الأحاديث السابقة على نقطة واحدة ألا و هي إطفاء السُرُج أو المصابيح عند النوم, و مع أن هناك العديد من الآيات التي تتناول أهمية النوم و السكن في الليل عملا بالسنة الكونية التي أجراها الله علي عباده {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يونس67, وقال تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } النمل86, وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } غافر61, إلا أن هذه الآيات لم تنهانا عن التعرض لضوء السُرُج أو المصابيح عند النوم ليلا, فقد ألتزم بالسنة الكونية فأنام بالليل و أعمل بالنهار, و لكن أحب النوم ليلا في ضوء المصابيح, و أحب أن تكون كل شوارع المدينة مضيئة في الليل.
فجاء قول الله تعالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, ليؤكد علي أهمية النوم في الظلام التام, فربط المولي تبارك و تعالي بين النوم السبات و بين جعله الليل لباسا, ليدل علي أهمية الظلمة التامة للحصول علي النوم السبات, قال الطبري في تفسيره (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً) أي سترا يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها.
و مع أن الآية السابقة بينت نعمة لباس الليل و أهمية هذه النعمة للنوم السبات, إلا أن هذه الآية أيضا لم تنهانا صراحة عن قطع لباس الليل بضوء المصابيح, و لما كان الإسلام هو دين الكمال الذي يدل الناس علي كل خير و ينهاهم عن كل شر, فقد جاءت السنة النبوية المكملة للقرآن بالنهي الصريح عن التعرض للمصابيح عند النوم في الليل (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ), و لم يكن النبي صلي الله عليه و سلم لينهانا عن شيء إلا لعلمه بأن له من الأضرار العاجلة و الآجلة أضعاف ما قد يحققه من النفع العاجل.
فهل أثبت العلم الحديث أن التعرض لضوء المصابيح في الليل له أضرار علي الإنسان و بيئته, و ما هي هذه الأضرار علي الإنسان و بيئته, هذا ما سوف نتناوله في هذا البحث بإذن الله تعالي.
الحقيقة العلمية :
يعتبر مصطلح التلوث الضوئي من المصطلحات الحديثة التي لم تكن في قاموس الإنسانية, و هو أحد أنواع الملوثات البيئية الحديثة التي تسبب فيها إنسان العصر الحديث, بسب الإسراف الزائد في استعمال الضوء الصناعي داخل و خارج البيوت, و في تحويل ليل المدن إلي نهار صناعي, مما أثر بالسلب علي الإنسان و بيئته.
فقد بدأت إضاءة الليل اصطناعياً بواسطة الكهرباء، تقلق طمأنينة الحياة, و تمزع لباس الليل الذي عهدته الكرة الأرضية منذ أن جعل الله الليل سكنا و النهار نشورا, و تعاقب الليل و النهار, وتآلفت الكائنات طبيعياً (وضمنها الإنسان) بهذا التعاقب الدوري، فسكنت الحياة ليلاً ، وازدهرت بسعي أغلب الكائنات الحية علي معاشها نهاراً.
و مع اكتشاف المصباح الكهربائي بدأ الخلل في ميزان التعاقب الدوري لليل و النهار, و تفاقم هذا الخلل حتى وصل ذروته في عصرنا الحديث بعد أن صمم الإنسان بجهل شديد علي إنارة كافة البيوت و التجمعات السكنية بشكل مبالغ فيه (صورة 1). و بعد عقود من الاستعمال الغاشم للإنارة الصناعية, ظهر للإنسان أن الإنارة الكهربائية بالرغم من كل ما لها من منافع إلا أنها لا تخلو من المساوئ, وظهر مصطلح «التلوث الضوئي» Light Pollution لوصف الآثار السلبية المترتبة على أنواع الإنارة الاصطناعية علي الإنسان و بيئته.
(صورة 1: صور الأقمار الاصطناعية، تظهر المدن الكبرى خلال الليل في هيئة آلاف النقاط المضيئة)
أضرار الافراط في الإضاءة
1 . أثر التلوث الضوئي على صحة الإنسان
بالرغم من أن الأبحاث العلمية قد أثبتت أن التعرض للضوء سواء الطبيعي أو الصناعي يزيد من نشاط الإنسان, و هذا من فوائد الضوء, و لكن الأبحاث العلمية الحديثة أثبتت أيضا أن زيادة فترة التعرض للضوء لها أضرار على الإنسان , و من هذه الأضرار:
أولا: زيادة نوبات الصداع، والشعور بالإرهاق، والتعرض لدرجات مختلفة من التوتر، وزيادة الإحساس بالقلق.
من المعروف أن الإضاءة المفرطة تعتبر عاملاً مباشراً ومهماً، خلف التعرض لنوبات الصداع النصفي الحاد. وفي إحدى الدراسات المسحية، احتل فرط الإضاءة المرتبة الثانية على قائمة الأسباب التي تؤدي لحدوث نوبات الصداع النصفي بين المصابين. بينما كان فرط الإضاءة هو السبب الرئيسي خلف الإصابة بنوبات الصداع النصفي بين 47% من بين جميع المصابين بهذا المرض. ولا تتوقف العلاقة بين الصداع وبين الإضاءة على درجة الشدة فقط، بل أيضاً على نوع الطيف الضوئي المستخدم، كما في حالات الاعتماد على الضوء الفلوريسنت (fluorescent light) بدلا من ضوء الشمس. هذا الاختلال الطيفي، بالإضافة إلى شدة الإضاءة، يعتبران معاً عاملين مهمين خلف زيادة الإحساس بالإرهاق، وخصوصاً بين من يقضون ساعات طويلة في العمل تحت مثل هذا النوع من الإضاءة. نفس هذه الظروف الضوئية، تؤدي أيضاً إلى زيادة واضحة في معدلات الشعور بالقلق والتوتر. حيث أثبتت الدراسات الطبية بالفعل، وجود ارتفاع في معدلات التوتر بجميع أعراضه وعلاماته الطبية، بين العاملين في أماكن أو القاطنين لمنازل، تستخدم فيها إضاءة مفرطة، وخصوصاً من نوع الفلوريسنت.
ثانيا: ارتفاع ضغط الدم
يعتقد العلماء أن ارتفاع ضغط الدم في هذه الحالات، ينتج بشكل غير مباشر من زيادة مستوى التوتر الذي يتعرض له المعرضون لفرط الإضاءة. فالمعروف أن زيادة مستوى التوتر، تؤدي إلى إفراز الجسم لهرمون الأدرينالين، و المسئول عن وضع الجسم في حالة من التأهب والاستعداد، من خلال تغيرات بيولوجية وفسيولوجية عديدة، مثل رفع ضغط الدم وزيادة ضربات القلب.
ثالثا: تثبيط جهاز المناعة:
وجد بعض الباحثين (C. Haldar *, R. Ahmad 2009) أن الضوء يؤثر على جهاز المناعة من خلال تأثيره على العين ثم المخ ثم الغدة الصنوبرية (صورة 2), و كذلك من خلال نفاذية الضوء لسطح الجلد . حيث كلما زاد الطول الموحى زادت درجة النفاذية عبر النسيج البصري و النسيج الجلدي. كما وجد البعض الآخر ( C. Haldar *, R. Ahmad;2008) أن الخلايا الليمفاوية في الدم تنتج هرمون الميلاتونين الذي يقوم بتنشيط المناعة, و أن هذا الإنتاج يتأثر بالضوء, حيث يثبط الضوء الذي ينفذ من الجلد و يصل للخلايا الليمفاوية التي تسير في الدم قرب سطح الجلد قدرة هذه الخلايا على تكوين و إفراز الميلاتونين مما يؤدى الي نقص المناعة بطريقة غير مباشرة, كما وجدوا أن تعرض الجلد لفترت من الظلام يقوى من مناعة الجسم .
(صورة 2: رسم تخطيطي يوضح دور الضوء في تثبيط و إفراز هرمون الميلاتونين و تأثير هذا على الجهاز المناعي ( C. Haldar *, R. Ahmad 2009))
رابعا: التأثير الضار للضوء علي الجلد
وجد بعض الباحثين ( Mahmoud BH, et al:2008) أن للطيف المنظور من الضوء تأثير ضار على الجلد حيث يؤدى إلى احمرار الجلد و تبقعه و التدمير الحراري لخلايا الجلد و كذلك إنتاج الشوارد الحرة هذا بالإضافة إلى التدمير غير المباشر للحمض النووي في خلايا الجلد الناتج عن الأكسجين النشط . كما اثبت البعض الآخر (Andrzej Slominski,et al;2005) أن للضوء تأثير غير مباشر علي الجلد من حلال تأثير الضوء على إفراز الميلاتونين حيث يتأثر الجلد بهرمون الميلاتونين الذي يقوم بدور هام في وظيفة الجلد الحيوية مثل دورة نمو الشعر, و لون الجلد, و تثبيط سرطان الجلد, كما يعمل على تثبيط تأثير الأشعة فوق البنفسجية التي تدمر خلايا الجلد, و له دور قوى كمضاد للأكسدة. و من هنا تتضح أهمية فترة الظلام و عدم التعرض للضوء للحفاظ على الجلد و على الحمض النووي لخلاياه من التدمير بالشوارد الحرة. و بمساعدة الميلاتونين تبدأ عملية التنظيف من الشوارد الحرة والأكسجين النشط في خلايا الجلد الناتجة عن التعرض للطيف المنظور من الضوء . ليس هذا فحسب إنما فى تقليل الضرر الناتج من الأشعة فوق البنفسجية على الجلد التي يتعرض الإنسان لها نهارا في ضوء الشمس.
خامسا: نقص إفراز هرمون الميلاتونين (Melatonin)
يتم إفراز هرمون الميلاتونين بصورة طبيعية عند دخول الليل بواسطة غدة صغيرة في الدماغ تعرف باسم الجسم الصنوبري(Pineal body), هذه المادة تنتشر في الدم وتعطي الإنسان الإحساس بالنعاس. تفرز هذه المادة الكيميائية بانتظام لكن يعاني من نقصها كبار السن فنلاحظ أن نومهم مضطرب أكثر من صغار السن الذين تفرز عندهم هذه المادة بوفرة, حيث كلما تقدم الشخص في العمر قل إفراز هذه المادة. إن إفراز هذه المادة يبدأ مع بداية الظلام ويكون إفرازه بسيط ويزداد مع الزمن إلى أن يصل الإفراز ذروته حتى يحين موعد الصباح وتشرق شمس يوم جديد فيتناقص الإفراز بشكل حاد (صورة 3). و قد وجد أن إفراز هذه المادة يقل بالتعرض للضوء مما يساعد علي السهر و يعرض الجسم لعدة أمراض.
(صورة 3: يزداد هرمون الميلاتونين في الليل و يقل في الصباح بشكل حاد)
أهمية هرمون الميلاتونين للجسم:
1. أهمية الميلاتونين كعلاج لاضطرابات النوم :
وجد بعض الباحثين (Reiter RJ, Korkmaz A; 2008) و (Shadab A. Rahman, et al; 2009 ) أنه عند تعرض الإنسان للضوء يتم تثبيط إفراز هرمون الميلاتونين, حيث تنتقل استجابة شبكية العين للضوء عبر العصب البصري حتى يصل إلى الغدة الصنوبرية التي تقوم بدورها بتثبيط إفراز الميلاتونين مما يؤدى إلي اضطرابات النوم التي من الممكن علاجها بإعطائه لهؤلاء المرضى.
2. أهمية الميلاتونين للجسم كمضاد للأكسدة :
وجد بعض الباحثين ( Dominique Bonnefont-Rousselota,b, Fabrice Collin 2010) أن الميلاتونين يعتبر من مضادات الأكسدة القوية حيث ثبت أن قدرته تفوق بمعدل خمس مرات قدرة فيتامين سي و هذه درجة تجعل تصنيفه من أقوى مضادات الأكسدة المعروفة. كما أن طبيعته تسمح له بالمرور خلال حواجز الخلايا لذلك يستطيع تقليل التدمير الناشىء عن الأكسدة الناتجة من العمليات الحيوية في الخلية . و بالإضافة لقدرته كمضاد للأكسدة يقوم هو أيضا بدور غير مباشر و ذلك بتنظيم عمل الإنزيمات المضادة للأكسدة.
3. أهمية الميلاتونين للمخ :
وجد بعض الباحثين ( Olcese JM et al; 2009) أن الميلاتونين يقلل من حدة مرض الزهايمر و يبطئ من تقدمه, كما وجد البعض الآخر ( Juan C. Mayo et al;2005) أنه ضرورى للوقاية من مرض الشلل الرعاش و كذلك فى تحسين فاعلية العلاجات للمرضى .
4. الميلاتونين مسكن للألأم :
وجد بعض الباحثين ( Mónica Ambriz-Tututi,2009) أن الميلاتونين يعتبر مسكنا للألأم حيث يقلل من الإحساس بالألم من خلال العديد من آليات التفاعلات البيوكيميائية مثل التنشيط الغير مباشر لمستقبلات المورفين, و تقليل افراز المواد المسببة للالتهابات بالإضافة الي عمله كمضاد للأكسدة. و لذلك تتضح أهمية النوم في الظلام لمن يعانون من أمراض ينتج عنها اى نوع من الألأم .
5. الميلاتونين و الوقاية من السرطان.
أظهرت بعض الدراسات الحديثة ( David E. Blask 2008) أن العمال في الفترات المسائية و المتعرضين للضوء الصناعي هم الأكثر تعرضا للإصابة بالسرطان و كذلك لنقص المناعة . كما أظهرت الأبحاث الحديثة ( Pauley SM.2004) أن تثبيط الميلاتونين بالتعرض للضوء ليلا قد يكون سببا من زيادة معدلات سرطان الثدي و القولون .
و قد و جدت العديد من الدراسات و منها ( Sánchez-Barceló EJ, et al;2003) و ( Joo SS, Yoo YM et al; 2009) أن تأثير الميلاتونين المضاد للسرطان يأتي من طبيعته كمضاد للأكسدة, بالاضافة الي قدرته علي التأثير المباشر علي الخلايا السرطانية حيث يثبط الميلاتونين السرطان من خلال التداخل فى عدد من المسارات البيوكيميائية , و قد وجد أنه في سرطان الثدي يقوم بدور مباشر على خلايا السرطان كمضاد طبيعي للإستروجين, و في سرطان البروستاتا يؤدى إلى موت الخلايا السرطانية المبرمج مبكرا .
2. أثر التلوث الضوئي على البيئة
كما تأثر الإنسان بالتلوث الضوئي تأثرت بيئته أيضا, فهناك العديد من الآثار السلبية للتلوث الضوئي علي البيئة و منها:
أولا: اختفاء نجوم السماء
لعل أول المتضررين من الإنارة الليلية هم هواة الفلك وعلماؤه, إذ يسمح ظلام الليل لهم بمراقبة مريحة لأفلاك الفضاء, أما مع الإنارة الليلية فتبدو السماء صفراء اللون ولا تظهر غالبية النجوم بالعين المجردة (صورة 4). وكذلك تعرقل الإنارة عمل ملاحي الفضاء في التصوير الالكتروني للسماء.
فالتلوث الضوئي يقضي على إمكان رؤيتنا الواضحة للسماء الواسعة المزينة بالنجوم و الكواكب {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6، و أصبح من الصعب الاهتداء بالنجوم في ظلمات البر و البحر {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }النحل16, كما أصبح من الصعب رؤية هلال الشهور العربية بالعين المجردة و المراصد الفلكية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}البقرة189, و بسب الإضاءة الجائرة للمصابيح التي تحيل ظلام الليل إلي نهار أُجبر الفلكيين إلي أخذ مراصدهم و مغادرة المدن .
ثانيا: الكائنات الحية غير الإنسان
في بحث جديٍّ أوضحت نتائجه مجلة "ناشيونال جيوجرافيك" ألقي الضوء على ما يعرف بظاهرة "التلوث الضوئي" وآثارها السلبية على كل الكائنات, فأظهرت نتائجه بأن المخلوقات الحية لم تكن بأحسن حالا من الإنسان, فقصتها السلبية مع التلوث الضوئي لا تقل خطورة عما يحدث للإنسان.
فالعديد من أنواع الأسماك والكائنات البحرية (صورة 5) تفقد حياتها وحياة صغارها بسبب التلوث الضوئي، سواء الموجودة بالقرب من شواطئ المسطحات المائية العملاقة، كالمحيطات والبحار المفتوحة، أو تلك الأضواء الموجودة تحت سطح الماء في القاع، لدواعي التنقيب عن ثروات طبيعية أو انتشال حطام سفينة أو طائرة استقرت بسبب الحوادث، في مملكة الكائنات البحرية.
هناك أنواع من الكائنات البحرية، مثل السبيط "كلماري" وثعبان البحر، وأنواع من السلاحف البرمائية، والحوت الأزرق، جميعها – وبطريقة فطرية – تأخذ في الدوران بسرعة عالية حول البقع الضوئية في قاع البحار، حتى يحدث لها نوع من الدوار الحاد يتسبب فوراً في نفوقها، الأمر الذي يهدد الثروة السمكية والبحرية، بالإضافة لتلوث قاع البحار، الذي لا ينقذه إلا تجديد ذاته تلقائياً حسب ما هو معروف في علم البحار.
أما طيور البطريق والطيور المهاجرة, فلها مع الأضواء قصص مأساوية، فطيور البطريق، الذكر منها، يضع صغيره بعد أن تلده الأم، تحت تجويف طبيعي في بطنه من الخارج وفوق قدميه، وإذا تعرض الصغير لتلوث ضوئي فإنه ينفق سريعاً، لأنه يحيا في نسبة ظلام طبيعية تفرضها المناطق الثلجية القطبية، التي بدأ الإنسان الوصول إليها وتخريب قوانين الطبيعة فيها.
أما هجرة الطيور للتزاوج، وقطع مئات الأميال من مكان لآخر في العالم، فتخضع لنظام البوصلة الطبيعية التي زودها الله سبحانه وتعالى بها، كنوع من الإعجاز في الخلق، وهذه البوصلة الطبيعية التي تحدد اتجاه الطيران لهجرة هذه الأسراب من الطيور، تفقد فاعليتها بالأضواء الساطعة عند معابر القارات وفوق المسطحات المائية، فتكون النتيجة نفوق أسراب هائلة من الطيور المهاجرة، مما يترتب عليه انقراض بعض أنواعها.
أيضاً تصمت حناجر الطيور المغردة، مثل ما يعرف بـ"الطيور السوداء" ذات الحنجرة الرائعة التي تصدر نغمات طبيعية مغردة، وطيور "العندليب" التي لها القدرة على تنغيم الصوت الموسيقي الطبيعي الصاعد تلقائياً من حنجرتها الواسعة، فهذان الطائران لا يغردان إلاّ وسط الظلام، ليكتمل الإعجاز بالصوت والصورة معاً، فالأضواء الشرسة الصاخبة تخرس أصوات هذه الطيور للأبد، وتنتهي حياتها بعيداً عن الطبيعة والفطرة التي خلقت عليها.
أيضاً تتأثر مملكة الحشرات بالتلوث الضوئي، لأنها تعيش في الظلام النسبي لاصطياد الحشرات الأخرى، وبعض من النباتات التي تقتات عليها، فالضوء نذير بالخطر لكل ما تأكله الحشرات، بحيث تهرب فرائسها، وبالتالي تنقرض الحشرات مثل أنواع من النمل المتسلق والفراشات كبيرة الحجم، أيضاً تقل نسبة تكاثرها الذي يتم في الظلام الهادئ.
كما أن الأضواء الصاخبة تقلل من نسبة الخصوبة لدى ذكور التماسيح، والخرتيت "وحيد القرن"، والبحث جارٍ حالياً حول مدى تأثير أضواء النيون الساطعة على نسبة التبويض لدى السيدات، وعلى صحة وحيوية الحيوانات المنوية لدى الرجال، فقد أثبتت الباحثة "ريتش" بأن قوة الضوء الصناعي تُحدث خمولاً في بعض الوظائف الحيوية للإنسان والحيوان معاً.
كما تأثر النبات بفعل التلوث الضوئي، لأن الأضواء المباشرة علي الأرض تمتص الرطوبة الطبيعية التي تحفظ للأرض سلامتها، وبالتالي تقل نسبة الأراضي الصالحة للزراعة والزهور والاخضرار.* كيف تغلب التشريع البشري علي الآثار الضارة للضوء:
بعد أن تنبهت البشرية إلي مخاطر التلوث الضوئي بدأت جميع دول أوروبا و أمريكا و غيرها من بلدان العالم المتحضر في سن القوانين و التشريعات التي من شأنها أن تحمي الإنسان و بيئته من أضرار الإضاءة الليلية الزائدة, وتهدف هذه التشريعات إلى عدم التبذير في استهلاك الكهرباء ليلاً، والتقليل من الهالة الضوئية المنطلقة من المدن، والتي تعيق رؤية النجوم ليلاً. و تمنع هذه التشريعات استعمال نوع من مصابيح الإنارة العمومية التي تنطلق أشعته إلى الأعلى, مع استعمال مصابيح فيها سقف يعكس الضوء نحو الأسفل، مما يساهم في اقتصاد الطاقة وتقليل هالة الضوء المنطلقة نحو الفضاء. ويسعى القانون إلى تحديد نسبة درجة الإنارة التي لا يمكن تجاوزها.
و من الغريب أن دول العالم الإسلامي و حتى لحظتنا هذه ما تزال تسرف في استخدام الإضاءة ليلا بالرغم من التحذير النبوي الصريح (أطفئوا مصابيحكم إذا رقدتم بالليل).
* وجه الإعجاز العلمي في قول النبي صلي الله عليه و سلم (أطفئوا مصابيحكم عند الرقاد):
إن دقة الحديث النبوي في رواياته العديدة التي تناولت إطفاء المصابيح, و التي تمثلت في الإطلاق و التقييد و التعميم و التخصيص قد غطت كل الأبحاث العلمية التي تناولت هذا الموضوع من كل جوانبه بشكل يذهل العقل. فلو تعرض بحث لضرورة النوم في الظلام ليلا نجد أن هناك رواية تؤيد هذا و إن تناول بحث أخر أهمية التواجد في فترة من الظلام بصفة دورية دون التقيد بالنوم في هذه الفترة نجد من الروايات ما يؤيد ذلك و إن تناول بحث أخر النوم في أي فترة من اليوم دون الليل لكن في الظلام نجد من الروايات ما يؤيد ذلك . لكن المجمع عليه من كل الروايات و الواضح منها هو إطفاء السراج أو النار أو المصابيح في الليل, و هو الموافق لتعريف التلوث الضوئي علي أنه زيادة الإضاءة في الليل.
الأحاديث التي جاءت بصيغ العموم دون تحديد لسبب الأمر بإطفاء المصابيح, و لا تحديد الضرر المترتب علي بقائها موقدة, شملت كل أنواع الضرر الذي قد يصيب الإنسان أو بيئته من جراء التلوث الضوئي, و كلما اكتشف الإنسان من أضرار جديدة للمصابيح, جاءت اللفظة المعجزة (أطفئوا مصابيحكم) لتعم هذا الضرر. و لذلك فان علماء المسلمين حين قصروا العلة من إطفاء المصابيح علي النار, فقالوا لو زالت هذه العلة فيجوز ترك المصابيح منيرة, نقول لهم في عصرنا الحديث صرنا نعلم أن أضرار المصابيح (الإضاءة) لا تقف عند حد النار و فقط, بل قد تتجاوزه إلي صحة الإنسان و بيئته من خلال التلوث الضوئي, و لذا نقول بحول الله و قوته بأن الأخذ بظاهر الأحاديث التي فيها تعميم دون تقييد بالروايات التي ذكرت علة الحرق بالنار أولي, لأن النبي صلي الله عليه و سلم أفهم و أفقه لأضرار الإضاءة (المصابيح) من أقوال علماء المسلمين, و بالتالي فان العمل بسنة إطفاء المصابيح عند الرقاد تظل باقية إلي قيام الساعة طالما أننا نكتشف أضرار جديدة للإضاءة غير النار, و طالما أنها موافقة للسنة الكونية التي أرادها رب البرية للكرة الأرضية فقال تعالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47.
قبل أن تعرف البشرية مصطلح التلوث الضوئي في العصر الحديث, و قبل أن تبدأ البشرية في سن القوانين التي تحمي الإنسان و بيئته من التلوث الضوئي, جاء التشريع الإسلامي علي لسان النبي محمد صلي الله عليه و سلم الذي لا ينطق عن الهوى, ليحمي البشرية من مخاطر المصابيح الظاهرة علي عهده (كالاحتراق بنارها) و الخفية التي لم تحدث في عهده (كالتلوث الضوئي), فقال صلي الله عليه و سلم (أطفئوا مصابيحكم إذا رقدتم بالليل), و لا يمكن للعقل السليم أن يشك و لو للحظة بأن هذا من كلام البشر, فلماذا يأمر النبي صلي الله عليه و سلم أمته بهذا الأمر و هم لم يسألوه عنه, و لماذا يغير من عادة العرب في إضاءة المصابيح في الليل و هم لم يشتكوا له من ضررها, و لماذا يتطرق الي مسألة دنيوية يمكن بحثها بالعلم التجريبي, و لو ثبت خطأه لما صدقه أحد, و لكن لأنه نبي مرسل لا ينطق عن الهوي و لا يتكلم إلا بالوحي فقد سبق كل التشريعات البشرية و وضح الحل الجذري لمشكلة بيئية خطيرة لم يراها علي زمنه بكلمات قليلة لو أحسن تدبرها كل الباحثين في مشكلة التلوث الضوئي, و المشرعين للحد من أضرارها لقالوا جميعا, صدق رسول الإسلام الرحمة المهداة إلي العالمين, فإظلام المصابيح عند الرقاد إعجاز نبوي يقي الإنسان و بيئته من التلوث الضوئي الذي ينشأ من التعرض الزائد للضوء في الليل.
الخاتمة:
إن ما أتينا به هنا ليس إلا على سبيل المثال لا الحصر فأهمية التعرض للظلام أثناء اليوم ما هو إلا موضوع تنبه له العلم حديثا و هذا مما يتضح هنا من الأبحاث التي تناولته . و قد يتكشف مستقبلا من الفوائد ما قد لا يتاح حاليا . و هذا يدفعنا لدعوة العلماء لإجراء الأبحاث حول هذا الموضوع من جوانب عدة و أهميته على صحة البشر و بيئته . و هنا عظمة الإسلام الذي لا يكتفي بإثبات الأبحاث العلمية الدالة على الإعجاز إنما أيضا في الاستفادة مستقبلا من توجيه الأبحاث إلى طريق يختصر كثيرا من الجهد و المال للوصول إلى نتائج مفيدة لحياة الإنسان . و سبحان الله العلى العظيم الذي أخبر نبيه الكريم هذا الأمر اللازم لوقاية الإنسان من أضرار كثيرة لم يكشف عنها العلم إلا حديثا .
فكرة و إعداد: هشام عبد الرحمن حسن عبد الرحمن (باحث ماجستير في الكيمياء الحيوية)
الإشراف العلمي و كتابة البحث : د. محمود عبد الله نجا (مدرس بكلية طب المنصورة)
المراجع :
القرآن الكريم
تفسير الطبري
صحيح البخاري
صحيح مسلم
فتح الباري شرح صحيح البخاري
فتح القدير شرح الجامع الصغير للمناوي
- موطأ مالك .
- سنن ابن ماجه .
- سنن الترمذى .
المراجع الأجنبية:
1- Reiter RJ, Korkmaz A: Clinical aspects of melatonin. Department of Cellular and Structural Biology, University of Texas Health Science Center, 7703 Floyd Curl Drive, San Antonio, Texas, USA.2008.
2- Dominique Bonnefont-Rousselota, Fabrice Collin: Melatonin: Action as antioxidant and potential applications in human disease and aging. a EA 3617, Département de Biologie Expérimentale, Métabolique et Clinique, Faculté des Sciences Pharmaceutiques et Biologiques,Université Paris Descartes 2010.
3- Olcese JM, Cao C, Mori T, Mamcarz MB, Maxwell A, Runfeldt MJ, Wang L, Zhang C, Lin X, Zhang G, Arendash GW: Protection against cognitive deficits and markers of neurodegeneration by long-term oral administration of melatonin in a transgenic model of Alzheimer disease. Florida State University College of Medicine, Tallahassee, FL, USA. 2009.
4- Juan C. Mayo,1 Rosa M. Sainz,1 Dun-Xian Tan,2Isaac Antolín,1 Carmen Rodríguez,1 and Russel J. Reiter: Melatonin and Parkinson’s Disease. 1Departamento de Morfologيa y Biologيa Celular, School of Medicine, University of Oviedo, Oviedo, Spain; and 2Departmentof Cellular and Structural Biology, University of Texas Health Science Center at San Antonio, San Antonio, TX, USA. 2005.
5- Ambriz-Tututi M, Rocha-González HI, Cruz SL, Granados-Soto V: Melatonin: a hormone that modulates pain. Departamento de Farmacobiología, Centro de Investigación y de Estudios Avanzados, Sede Sur, México, D.F., Mexico.2009.
6- Shadab A. Rahman a, Leonid Kayumov a,b, Colin M. Shapiro: Antidepressant action of melatonin in the treatment of Delayed Sleep Phase Syndrome. Sleep Research Laboratory, University Health Network, Toronto, Ont., Canada Dept. of Psychiatry, University of Toronto, Toronto, Ont., Canada Dept. of Ophthalmology, University of Toronto, Toronto, Ont., Canada.2009.
7- David E. Blask:Melatonin, sleep disturbance and cancer risk. Laboratory of Chrono-Neuroendocrine Oncology, Department of Structural and Cellular Biology, Tulane University School of Medicine, New Orleans, LA 70112, USA.2008.
8- Pauley SM. Lighting for the human circadian clock: recent research indicates that lighting has become a public health issue: Med Hypotheses. 2004;63(4):588-96.
9- Sأ،nchez-Barcelأ³ EJ, Cos S, Fernأ،ndez R, Mediavilla MD: Melatonin and mammary cancer: a short review. Department of Physiology and Pharmacology, School of Medicine, University of Cantabria, 39011 Santander, Spain.2003.
10 - Joo SS, Yoo YM: Melatonin induces apoptotic death in LNCaP cells via p38 and JNK pathways: therapeutic implications for prostate cancer. Research Institute of Veterinary Medicine, Chungbuk National University, Chungbuk, Korea.2009.
11-C. Haldar *, R. Ahmad: Photoimmunomodulation and melatonin.
Pineal Research Lab., Department of Zoology, Banaras Hindu
University, Varanasi 221 005, India.2008.
12-Mahmoud BH, Hexsel CL, Hamzavi IH, Lim HW: Effects of visible
light on the skin. Multicultural Dermatology Center, Department of Dermatology, Henry Ford Hospital, Detroit, MI, USA.2008.
13- Andrzej Slominski,1 Tobias W. Fischer,1,2 Michal A. Zmijewski,1
Jacobo Wortsman,3 Igor Semak,4 Blazej Zbytek,1,5 Radomir M. Slominski,1 and Desmond J. Tobin: On the Role of Melatonin in Skin Physiology and Pathology. 1Department of Pathology and Laboratory Medicine, Health Science Center, University of Tennessee, Memphis, TN, 38103;2005.
مواقع من الشبكة العنكبوتية (الانترنت)
1. التلوث الضوئي علي موقع ويكيبيديا
2. الضوء الصناعي , تلوث بيئي جديد: عبد البديع حمزة زللى (أستاذ علم التلوث والتسمم البيئي بجامعة طيبة - المدينة المنورة)
3. موقع ناشيونال جيوجرافيك Light Pollution
5. مصدر بعض الصور